متابعة علاء ثابت مسلم
الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا مقولة تتردد كثيراعلى أفواه العامة إستوقفتنى هذه العبارة طويلا باحثا عن نصيبها من الصحة والخطأ
بادئ ذى بدئ علينا أن نعتقد أن كيبلنج حين أطلق هذه العبارة قطعا لم يكن يقصد الشرق الجغرافى والغرب الجغرافى وإنما وكما أظن كان يقصد بالشرق الشرق الإسلامى وإن امتد إلى ساحل الأطلسى وأما الغرب فهو-كما أظن-شمال البحر المتوسط وفصيله أمريكا.
ثم لنا أن نتساءل مامفهوم اللقاء فى تعبيره لن يلتقيا؟
إن كان يقصدباللقاء هنا أن تذوب الثقافة الشرقية ذوبانا تاما فى الثقافة الغربية-ولا أظنه يقصد هذا-فهو بهذا لم يقرأ التاريخ الذى علمنا أن ثقافة الأمم وهويتها قد يعتريها موجات من المد بعد الجزر أو يخبو ضوؤها بعد سطوع ولكنها أبدا لا تندثر لا بالموت الحضارى ولا بالذوبان فى ثقافات الآخرين . فها هى حضارة الإغريق وثقافنهم تجد لنفسها فى الإسكندريةحاضنة رؤؤم لتستعيد ازدهارها بعد أن خفتت أضواء أثينا تحت وطأة التمدد الرومانى تجاهها.
أما إذا كان يقصد بالتلاقى التفاعل والتلاقح فها هو هيرودت الأغريقى حتى النخاع ها هو يذكر مصر بالفضل فى كتاباته وها هى أساطير الإغريق وملاحمهم الشعرية تدور بعض أحداثها فى بلاد الشرق.
هذه مقدمة موجزة لموضوعنا عن مسيرة العقل العربى ونقاط تقاطعه وكذلك نقاط تعارضه مع الثقافة الغربية.
الهوية
طالعتنا الصحف فى الأيام الماضية بسيل من الصدمات الاجتماعية اههتز لها كيان كل غيور على أمن مصر وسلامها الاجتماعى . . .
أربعينى يغتصب طفلة رضيعة.
أب يغتصب ابنته المراهقة.
شاب يذبح أخاه من الوريد إلى الوريد.
ما هذا الذى يجرى فى بلدى ؟ أهذه هى مصر التى كانت مضرب المثل فى أمنها وأمانها ؟ أهؤلاء هم المصريون الذين كان يفزع إليهم الخائفون من شتى بقاع الأرض فيجدون فى ربوعها الأمن وفى أحضان شعبها الأنس والطمأنينة ؟
هل تغير شىء فى مصر ؟ المكان هو المكان بعبقريته التى وصفها المرحوم جمال حمدان . أم أن المصريون أنفسهم هم من تغير؟ وفى أى اتجاه يتغيرون؟
لم يسعفنى تفاؤلى لأدعى أن التغيير يسير نحو الأفضل . بل إنى لا أعتبر نفسى متشائما إن قلت أن المصريين ومن ثم مصر يسيرون فى طريق سيفضى بهم لا محالة إلى حالة من فقدان الهوية التى عرفهم بها التاريخ على مر العصور والأجيال. وليس أخطر على أمة من ضياع هويتها الثقافية والإجتماعية.
كانت الحوادث السابقة والكثيرغيرها كاف لتتوارد على مخيلتى أحداث هذه القصة القصيرة علها تحمل فى طياتها بعضا من مخاوفى .
تدور أحداث القصة حول فتى يدعى حسان يعيش فى احدى قرى دلتا مصر. طويل بطول نيلها عريض كآمال شعبها مفتول العضلات كأن ذراعيه ساقا نخلة فى واحاتها. من شمسها الساطعة اكتسبت بشرته سمرتها .
من ذهبها الأبيض كان ينسج ثوبه أبيضا بلون قلوب أهلها فضفاضا وكأنه يقول إن هذا القلب يتسع للجميع حبا ومودة.
ورث الفتى حسان عن أمه بضعة قراريط من أخصب الأرض الزراعية فى قريته تلك . لم يبخل بجهده على أرضه والتى بدورها لم تبخل عليه بثمارها . ولكن شيئا ما قد تغير ضاق حسان بالقرية أو أن القرية هى التى ضاقت به . قرر حسان فجأة أن يبيع الأرض . . يالها من مصيبة فى أعراف أهل القرى . اعترض أعمامه وأخواله جميعا ولكنه أعرض عن الناصحين وصم أذنيه عن توسلاتهم ولما استيأسوا منه خلصوا إلى أكبر أخواله ليشتريها هو بدلا من أن تؤول إلى غريب. لم يتردد الخال الذى عرف بين العائلة بحكمته وحدبه ليس على أفراد عائلته فحسب بل على أهل القرية جميعهم .
سلمه الشيخ الحكيم ثمن الأرض وسأ له وهو يتصنع الحلم هلا أخبرتنى لماذا اصرارك هذا على بيع الأرض وماذا ستفعل بهذا المال؟ أجابه حسان أنه سيسافر خارج مصر حيث يبحث لنفسه عن عمل آخر سوى الفلاحة ومشاقها . ازدرد الشيخ غصة أحس مرارتها فى حلقه وحاول أن يدارى غضبا بدا فى ملامح وجهه ورد على الفتى متهكما حقا إنه من الأفضل أن ترحل عن القرية لأن أحدا من العائلة لا يستطيع أن يراك وأطفال القرية يهتفون خلفك * * عواد باع أرضه يا ولاد
شوفوا طوله وعرضه يا ولاد.
طأطأ الفتى رأسه وهو يردد بكره تشوفوا وتقولوا إن حسان كان بيفكر صح .
غاب حسان عن مصر عامين كاملين بعدهما عاد إلى قريته يرتدى بنطالا من الجينز وقميصا مزركشا تتبين فيه وبسهولة كل ألوان الطيف. وبقدر ما احتفى بمقدمه كل أفراد العائلة أنكر عليه الجميع مظهره وملابسه ولكن أحدا لم يبد له شيئا من هذا سوى شاب من أبناء عمومته تقدم منه وأمسك بطرف قميصه قائلا قميصك جميل يا حسان بس ياترى فيه منه على رجالى ؟
قضى الفتى حسان بين أهله بضعة أيام استمتع خلالها بدفئ العائلة وكرم الأهل . وذات يوم استدعاه خاله الأكبروعرض عليه أن يعيد له أرضه بنفس الثمن الذى اشتراها به وبالتقسيط ان لم يكن المبلغ جاهزا . أجابه حسان بعد أن أجزل له الشكر لا يا خال لا عودة للفلاحة مطلقا وأبشرك أننى قد وجدت عملا بالقاهرة وكلفت من سيستأجر لى شقة هناك وسوف أتزوج بفتاة من هناك والدها رجل فاضل تعرفت عليه ابان الغربة . أجاب الشيخ بما عرف عنه من صفاء القلب أما عن زواجك من بنت صديقك فكل بنات الناس خير وبركة ومبارك عليك . ولكن ماذا ستعمل بالقاهرة ؟ أجابه الفتى بكلمة مقتضبة أعمال حرة يا خال .وقبل أن يستفيض الشيخ فى تساؤلاته رن جرس الهاتف ليسأله من يتصل هل مستر حسون موجود ؟ أجاب الشيخ وهو يرمق الفتى بعين مرتابة و مداريا ابتسامة ساخرة لا يا ابنى النمرة غلط .
فى الغربة تعرف حسان على رجل غامض كثيرا ما كانت تثار حوله الشكوك متأنق دائما فى مظهره يسكن فيلا مؤثثه بأفخم الأثاث سيارته الفارهه يجددها كل عام
كل هذا ولا أحد يعرف ماهى طبيعة عمل هذا الرجل ولا ما هو مصدر دخله ؟. البعض يردد أنه يتاجر فى المخدرات وآخرون يدعون أنه عضو فى شبكة سرقة وتهريب آثار واتهامات كثيرة من هنا وهناك. ولكن لادليل على أى من هذه الاتهامات .وذات يوم عرض هذا الرجل على حسان أن يعمل معه . فورا تذكر حسان الأقاويل التى تتردد حول هذا الرجل فهم بالاعتذار ولكن الرجل الخبير بطبائع الناس ومواطن ضعفهم بادره قائلا فكر جيدا قبل أن تقبل أو ترفض وتذكر أن الفرصة لا تواتى المرء إلا مرة واحدة .
فى مساء اليوم التالى توجه حسان لفيلا ذلك الرجل الذى أجلسه إلى جواره على أرجوحة بحديقة الفيلا . لم يضع الرجل وقته وبادر حسان وبلا مقدمات قائلا ما دمت قد أتيت فهذا يعنى أنك وافقت على العمل معى. فلندخل فى التفاصيل .
اننا يا حسان نساعد الشباب الطموح من أمثالك ليحسنوا من ظروفهم المعيشية وذلك بتسهيل سفرهم خارخ مصر. هل هذا يعنى أننا سنبيع التأشيرات وعقود العمل للشباب؟ قاطعه حسان بهذا السؤال . نظر الرجل إلى الشاب باستعلاء وقد قطب ما بين حاجبيه وهو يقول أى تأشيرات وأى عقود تقصد ؟ إن السفر إلى هذه البلاد أصبح موضة قديمة وتعمد أن ينطقها بالإنجليزية old fashion ليزداد انبهار الفتى لا تنسى يا حسان أننا فى الألفية الثالثة .المستقبل هناك فى أوربا . هل تعرف يا حسان ما معنى أوربا ؟ هناك حيث رغد العيش تأكل ماتشتهى وتلبس ما يعجبك . هناك لا أحد يلتفت إليك من أين جاء وإلى أين يذهب ؟ وفى المقابل أنت لست مطالبا أن تهتم بأحد . هناك عقلك هو سيدك . باختصار هناك أنت المراد وأنت الطلب . سادت فترة صمت بينهما قطعها الرجل بقوله حسان ستكون عمولتك عن كل شاب نتعاقد معه مبلغا يفوق كل ما ادخرت فى هذه الغربة خلال عامين هذا بالاضافة إلى الثواب الذى ستناله من الله اذ ستنتشل أسرة من الفقر إلى الغنى ومن ذل العيش إلى عزه . جلس حسان فترة صامتا وقد تمزقت نفسه بين طبيعة العمل واغراء الربح. ثم سأل محدثه وقد خفض من صوته هل هذا ما يسمونه الهجرة الغير شرعية ؟وبمجرد سماع الرجل لهذا السؤال هاج وماج وصاح فى وجه الفتى اسمع يا حسان لقد اخترتك لما لمست فيك من طموح وذكاء ولقد خاب ظنى فيك اذ وجدتك تفكر كغيرك بهذه الطريقة الرجعية. ساد بينهما فترة صمت قطعها الرجل متسائلا منذ متى يا حسان كان الطموح جريمة ؟ منذ متى ياحسان كان البحث عن لقمة عيش كريمة عملا غير شرعى؟ وهب أنه غير شرعى ما الذى يسير فى حياتنا على اسس شرعية ؟ هل سرقة أموال الشعوب وتهريبها إلى بنوك سويسرا عمل شرعى؟ هل المحسوبية والرشاوى التى تدفع مقابل الحصول على وظيفة عمل شرعى؟ أصطنع الرجل الشفقة وهو يقول يعنى يا حسان جت لحد الغلبان وبقت حرام ؟
عمل حسان مع هذا الرجل عاما كاملا حقق خلاله الكثير من الأرباح ولكن الربح الأعظم كان يوم أخطرته زوجته أنها حامل . أمضى تسعة أشهر يفكر فى الطفل الجديد وكيف انتشله من قسوة الحياة فى القرية إلى لينها فى القاهرة إلى أن جاء اليوم الموعود وهو يروح ويجئ فى صالة البيت ينخلع قلبه مع كل صرخة من صرخات زوجته . إلى أن جاءته القابلة تحمل بين يديها طفلا قد لف بعناية فى قماش أبيض ناصع أعاد إليه ذكرى ثوبه فى القرية . سلمته القابلة الطفل وهى تقول يتربى فى عزك وارتعش صوتها وهى تقول ولد زى القمر ثم انسلت خارجة ولم يظهر لها أثر بعدها .
نظر حسان فى وجه الطفل وشهق شهقة كادت تنخلع لها روحه وصاح وهو يضع الطفل إلى جوار أمه التى كانت تحاول أن تكتم بكاءها عن الأب المصدوم هل هذا إبنى؟ لقد كان الطفل أسودا بلون زنوج أفريقيا , ذهبى الشعر وكأنه اسكندنافى أفطس الأنف ضيق العينين أزرقهما.
أمضى حسان بضغة أيام لا يكاد يفيق من ذهوله . هذا الطفل ليس ابنه , ابن من يكون ؟ هو يعلم يقينا أن زوجته طاهرة عفيفة وهب أنها لا سمح الله ليست كذلك فمع من خانته؟ لقد اجتمعت ملامح كل شعوب الأرض فى ملامح ابنه . أى عقل يستطيع أن يفسر هذا ؟
وبينما هو جالس على أريكة خشبية عند مدخل العمارة التى تقع بها شقته وقد وضع الطفل على فخذه ناظرا إليه بحسرة إذا بصوت يحييه السلام عليك ياحسان . رفع الفتى رأسه ليرى خاله وقد جاء من القرية بعد أن علم أن ابن أخته يواجه مشكلة ما . نهض حسان مسرعا وعانق خاله وألقى برأسه على صدر الشىخ وأجهش فى البكاء .
كفكف دمعك ياولدى واهدأ وقل لى ما المشكلة. سلم حسان الطفل لخاله الذى كشف عن وجهه وهو يسمى الله وقبل بين حاجبيه ثم نظر إلى حسان وهو يقول ماشاء الله طفل جميل صاح الفتى أى جمال يا خال أيعقل أن يكون هذا المسخ المشوه إبنى ؟ إنه ليست له ملامح محددة . إنه لا يشبهنى على الإطلاق . نظر الشيخ مليا فى وجه ابن أخته وقال له كيف تقول هذا يا مستر حسون ؟ على العكس مما تقول أنا أراه شبهك طبق الأصل فولة واتقسمت نصين . لم يدرك الفتى ما الذى يرمى إليه خاله فأجهش فى البكاء فى الوقت الذى نهض فيه الشيخ الوقور وهو يردد * *أجدت البكاء على مظهر لم تحسن الحفاظ على جوهره * *
وقبل أن يغادر الشيخ مدخل العمارة سمع صراخا ينبئ أن الطفل قد فارق الحياة .